فصل: الْبَابُ الثَّالِثَ عَشَرَ: فِي وَضْعِ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الأحكام السلطانية والسياسة الدينية والولايات الشرعية



.الْبَابُ الثَّالِثَ عَشَرَ: فِي وَضْعِ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ:

.فَصْلٌ فِي أَوْجُهِ الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ:

وَالْجِزْيَةُ وَالْخَرَاجُ حَقَّانِ أَوْصَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ: يَجْتَمِعَانِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، ثُمَّ تَتَفَرَّعُ أَحْكَامُهُمَا.
فَأَمَّا الْأَوْجُهُ الَّتِي يَجْتَمِعَانِ فِيهَا فَأَحَدُهَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَأْخُوذٌ عَنْ مُشْرِكٍ صَغَارًا لَهُ وَذِمَّةً وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا مَا لَا فَيْءٍ؛ يُصْرَفَانِ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمَا يَجِبَانِ بِحُلُولِ الْحَوْلِ وَلَا يُسْتَحَقَّانِ قَبْلَهُ.
وَأَمَّا الْأَوْجُهُ الَّتِي يَفْتَرِقَانِ فِيهَا: فَأَحَدُهَا أَنَّ الْجِزْيَةَ نَصٌّ وَأَنَّ الْخَرَاجَ اجْتِهَادٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ أَقَلَّ الْجِزْيَةِ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ وَأَكْثَرَهَا مُقَدَّرٌ بِالِاجْتِهَادِ، وَالْخَرَاجُ أَقَلُّهُ وَأَكْثَرُهُ مُقَدَّرٌ بِالِاجْتِهَادِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مَعَ بَقَاءِ الْكُفْرِ وَتُقَسَّطُ بِحُدُوثِ الْإِسْلَامِ؛ وَالْخَرَاجُ يُؤْخَذُ مَعَ الْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ فَأَمَّا الْجِزْيَةُ فَهِيَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الرُّءُوسِ وَاسْمُهَا مُشْتَقٌّ مِنْ الْجَزَاءِ، إمَّا جَزَاءً عَلَى كُفْرِهِمْ لِأَخْذِهَا مِنْهُمْ صَغَارًا، وَإِمَّا جَزَاءً عَلَى أَمَانِنَا لَهُمْ لِأَخْذِهَا مِنْهُمْ رِفْقًا.

.فَصْلٌ فِي الْأَصْلِ فِي الْجِزْيَةِ:

وَالْأَصْلُ فِيهَا قَوْله تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} أَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ} فَأَهْلُ الْكِتَابِ وَإِنْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ فَيُحْتَمَلُ نَفْيُ هَذَا الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَأْوِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا لَا يُؤْمِنُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْقُرْآنُ وَالثَّانِي لَا يُؤْمِنُونَ بِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِأَنَّ تَصْدِيقَ الرُّسُلِ إيمَانٌ بِالْمُرْسِلِ.
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ}.
يَحْتَمِلُ تَأْوِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا لَا يَخَافُونَ وَعِيدَ الْيَوْمِ الْآخِرِ، وَإِنْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالثَّانِي لَا يُصَدَّقُونَ بِمَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ.
وَقَوْلُهُ {وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} يَحْتَمِلُ تَأْوِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِنَسْخِهِ مِنْ شَرَائِعِهِمْ وَالثَّانِي مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُمْ وَحَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ.
وَقَوْلُهُ {وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ.
وَالثَّانِي: الدُّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
وَقَوْلُهُ {مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا مِنْ دِينِ أَبْنَاءِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ.
وَالثَّانِي مِنْ الَّذِينَ بَيْنَهُمْ الْكِتَابُ لِأَنَّهُمْ فِي اتِّبَاعِهِ كَأَبْنَائِهِ وقَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا حَتَّى يَدْفَعُوا الْجِزْيَةَ وَالثَّانِي حَتَّى يَضْمَنُوهَا لِأَنَّ بِضَمَانِهَا يَجِبُ الْكَفُّ عَنْهُمْ.
وَفِي الْجِزْيَةِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُجْمَلَةِ الَّتِي لَا نَعْرِفُ مِنْهَا مَا أُرِيدَ بِهَا إلَّا أَنْ يَرِدَ بَيَانٌ وَالثَّانِي أَنَّهَا مِنْ الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَجِبُ إجْرَاؤُهَا عَلَى عُمُومِهَا إلَّا مَا قَدْ خَصَّهُ الدَّلِيلُ.
وَفِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {عَنْ يَدٍ} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا عَنْ غِنًى وَقُدْرَةٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّ لَنَا فِي أَخْذِهَا مِنْهُمْ يَدًا وَقُدْرَةً عَلَيْهِمْ.
وَفِي قَوْلِهِ: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا أَذِلَّاءَ مُسْتَكِينِينَ وَالثَّانِي أَنْ تُجْرَى عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ، فَيَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَضَعَ الْجِزْيَةَ عَلَى رِقَابِ مَنْ دَخَلَ فِي الذِّمَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِيُقَرُّوا بِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَيَلْتَزِمُ لَهُمْ بِبَذْلِهَا حَقَّانِ: أَحَدُهُمَا الْكَفُّ عَنْهُمْ وَالثَّانِي الْحِمَايَةُ لَهُمْ لِيَكُونُوا بِالْكَفِّ آمَنِينَ وَبِالْحِمَايَةِ مَحْرُوسِينَ رَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ قَالَ: «احْفَظُونِي فِي ذِمَّتِي».

.فَصْلٌ فِيمَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ:

وَالْعَرَبُ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ كَغَيْرِهِمْ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا آخُذُهَا مِنْ الْعَرَبِ لِئَلَّا يَجْرِي عَلَيْهِمْ صَغَارٌ، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْ مُرْتَدٍّ وَلَا دَهْرِيٍّ وَلَا عَابِدِ وَثَنٍ.
وَأَخَذَهَا أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ إذَا كَانُوا عَجَمًا وَلَمْ يَأْخُذْهَا مِنْهُمْ إذَا كَانُوا عَرَبًا، وَأَهْلُ الْكِتَابِ هُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَكِتَابُهُمْ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، وَيَجْرِي الْمَجُوسُ مَجْرَاهُمْ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ وَإِنْ حَرُمَ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحُ نِسَائِهِمْ وَتُؤْخَذُ مِنْ الصَّابِئِينَ وَالسَّامِرَةِ إذَا وَافَقُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي أَصْلِ مُعْتَقِدِهِمْ وَمَنْ دَخَلَ فِي الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة قَبْلَ تَبْدِيلِهِمَا أُقِرَّ عَلَى مَا دَانَ بِهِ مِنْهُمَا، وَلَا يُقَرُّ إنْ دَخَلَ بَعْدَ تَبْدِيلِهِمَا وَمَنْ جُهِلَتْ حَالَتُهُ أُخِذَتْ جِزْيَتُهُ وَلَمْ تُؤْكَلْ ذَبِيحَتُهُ.
وَمَنْ انْتَقَلَ مِنْ يَهُودِيَّةٍ إلَى نَصْرَانِيَّةٍ لَمْ يُقَرَّ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ وَأُخِذَ بِالْإِسْلَامِ، فَإِنْ عَادَ إلَى دِينِهِ الَّذِي انْتَقَلَ عَنْهُ فَفِي إقْرَارِهِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ وَيَهُودُ خَيْبَرَ وَغَيْرُهُمْ فِي الْجِزْيَةِ سَوَاءٌ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ.
وَلَا تَجِبُ الْجِزْيَةُ إلَّا عَلَى الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ الْعُقَلَاءِ، وَلَا تَجِبُ عَلَى امْرَأَةٍ وَلَا صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ وَلَا عَبْدٍ لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ وَذَرَارِيَّ، وَلَوْ تَفَرَّدَتْ مِنْهُمْ امْرَأَةٌ عَلَى أَنْ تَكُونَ تَبَعًا لِزَوْجٍ أَوْ نَصِيبٍ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهَا جِزْيَةٌ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِرِجَالِ قَوْمِهَا وَإِنْ كَانُوا أَجَانِبَ مِنْهَا، وَلَوْ تَفَرَّدَتْ امْرَأَةٌ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ فَبَذَلَتْ الْجِزْيَةَ لِلْمَقَامِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَلْزَمْهَا مَا بَذَلَتْهُ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهَا كَالْهِبَةِ لَا تُؤْخَذُ مِنْهَا إنْ امْتَنَعَتْ وَلَزِمَتْ ذِمَّتُهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَبَعًا لِقَوْمِهَا.
وَلَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ خُنْثَى مُشْكِلٍ، فَإِنْ زَالَ إشْكَالُهُ وَبَانَ أَنَّهُ رَجُلٌ أُخِذَ بِهَا فِي مُسْتَقْبَلِ أَمْرِهِ وَمَاضِيهِ.

.فَصْلٌ فِي قَدْرِ الْجِزْيَةِ:

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَدْرِ الْجِزْيَةِ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى تَصْنِيفِهِمْ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: أَغْنِيَاءُ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَأَوْسَاطُ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَفُقَرَاءُ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا؛ فَجَعَلَهَا مُقَدَّرَةَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ وَمَنَعَ مِنْ اجْتِهَادِ الْوُلَاةِ فِيهَا وَقَالَ مَالِكٌ لَا يُقَدَّرُ أَقَلُّهَا وَلَا أَكْثَرُهَا وَهِيَ مَوْكُولَةٌ لِاجْتِهَادِ الْوُلَاةِ فِي الطَّرَفَيْنِ وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهَا مُقَدَّرَةُ الْأَقَلِّ بِدِينَارٍ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَقَلَّ مِنْهُ وَعِنْدَهُ غَيْرُ مُقَدَّرَةِ الْأَكْثَرِ يَرْجِعُ فِيهِ إلَى اجْتِهَادِ الْوُلَاةِ وَيَجْتَهِدُ رَأْيَهُ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ أَوْ التَّفْضِيلِ بِحَسَبِ أَحْوَالِهِمْ، فَإِذَا اجْتَهَدَ رَأْيَهُ فِي عَقْدِ الْجِزْيَةِ مَعَهَا عَلَى مُرَاضَاةِ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ صَارَتْ لَازِمَةً لِجَمِيعِهِمْ وَلِأَعْقَابِهِمْ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، وَلَا يَجُوزُ لِوَالٍ بَعْدَهُ أَنْ يُغَيِّرَهُ إلَى نُقْصَانٍ مِنْهُ أَوْ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ.
فَإِنْ صُولِحُوا عَلَى مُضَاعَفَةِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ ضُوعِفَتْ كَمَا ضَاعَفَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ تَنُوخِ وَبَهْرَاءَ وَبَنِي تَغْلِب بِالشَّامِ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ النِّسَاءِ وَالصَّبِيَّانِ لِأَنَّهَا جِزْيَةٌ تُصْرَفُ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ فَخَالَفَتْ الزَّكَاةَ الْمَأْخُوذَةَ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْجِزْيَةِ أُخِذَتَا مَعًا، وَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا وَحْدَهَا كَانَتْ جِزْيَةً إذَا لَمْ تَنْقُصْ فِي السَّنَةِ عَنْ دِينَارٍ وَإِذَا صُولِحُوا عَلَى ضِيَافَةِ مَنْ مَرَّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قُدِّرَتْ عَلَيْهِمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَأُخِذُوا بِهَا لَا يُزَادُونَ عَلَيْهَا كَمَا صَالَحَ عُمَرُ نَصَارَى الشَّامِ عَلَى ضِيَافَةِ مَنْ مَرَّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِمَّا يَأْكُلُونَ، وَلَا يُكَلِّفُهُمْ ذَبْحَ شَاةٍ وَلَا دَجَاجَةٍ وَتَبْيِيتِ دَوَابِّهِمْ مِنْ غَيْرِ شَعِيرٍ وَجَعَلَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ دُونَ الْمُدُنِ، فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِمْ الضِّيَافَةَ وَمُضَاعَفَةَ الصَّدَقَةِ فَلَا صَدَقَةَ عَلَيْهِمْ فِي زَرْعٍ وَلَا ثَمَرَةٍ، وَلَا يَلْزَمُهُمْ إضَافَةُ سَائِلٍ وَلَا سَابِلٍ.

.فَصْلٌ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِي عَقْدِ الْجِزْيَةِ:

وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ فِي عَقْدِ الْجِزْيَةِ شَرْطَانِ: مُسْتَحَقٌّ وَمُسْتَحَبٌّ أَمَّا الْمُسْتَحَقُّ فَسِتَّةُ شُرُوطٍ أَحَدُهَا أَنْ لَا يَذْكُرُوا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى بِطَعْنٍ فِيهِ وَلَا تَحْرِيفٍ لَهُ وَالثَّانِي أَنْ لَا يَذْكُرُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَكْذِيبٍ لَهُ وَلَا ازْدِرَاءٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَذْكُرُوا دِينَ الْإِسْلَامِ بِذَمٍّ لَهُ وَلَا قَدْحٍ فِيهِ وَالرَّابِعُ أَنْ لَا يُصِيبُوا مُسْلِمَةً بِزِنًا وَلَا بِاسْمِ نِكَاحٍ وَالْخَامِسُ أَنْ لَا يَفْتِنُوا مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ وَلَا يَتَعَرَّضُوا لِمَالِهِ وَلَا دِينِهِ وَالسَّادِسُ أَنْ لَا يُعِينُوا أَهْلَ الْحَرْبِ وَلَا يَوَدُّوا أَغْنِيَاءَهُمْ.
فَهَذِهِ السِّتَّةُ حُقُوقٌ مُلْتَزَمَةٌ فَتَلْزَمُهُمْ بِغَيْرِ شَرْطٍ، وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ إشْعَارًا لَهُمْ وَتَأْكِيدًا لِتَغْلِيظِ الْعَهْدِ عَلَيْهِمْ وَيَكُونُ ارْتِكَابُهَا بَعْدَ الشَّرْطِ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ.
وَأَمَّا الْمُسْتَحَبُّ فَسِتَّةُ أَشْيَاءَ أَحَدُهَا تَغْيِيرُ هَيْئَاتِهِمْ بِلُبْسِ الْغِيَارِ وَشَدِّ الزُّنَّارِ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَعْلُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَبْنِيَةِ وَيَكُونُوا إنْ لَمْ يَنْقُصُوا مُسَاوِينَ لَهُمْ وَالثَّالِثُ أَنْ لَا يُسْمِعُوهُمْ أَصْوَاتَ نَوَاقِيسِهِمْ وَلَا تِلَاوَةَ كُتُبِهِمْ وَلَا قَوْلِهِمْ فِي عُزَيْرٍ وَالْمَسِيحِ وَالرَّابِعُ أَنْ لَا يُجَاهِرُوهُمْ بِشُرْبِ خُمُورِهِمْ وَلَا بِإِظْهَارِ صُلْبَانِهِمْ وَخَنَازِيرِهِمْ وَالْخَامِسُ أَنْ يُخْفُوا دَفْنَ مَوْتَاهُمْ وَلَا يُجَاهِرُوا بِنَدْبٍ عَلَيْهِمْ وَلَا نِيَاحَةٍ وَالسَّادِسُ أَنْ يُمْنَعُوا مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ عِنَاقًا وَهِجَانًا وَلَا يُمْنَعُوا مِنْ رُكُوبِ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ؛ وَهَذِهِ السِّتَّةُ الْمُسْتَحَبَّةُ لَا تَلْزَمُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ حَتَّى تُشْتَرَطَ فَتَصِيرَ بِالشَّرْطِ مُلْتَزَمَةً وَلَا يَكُونُ ارْتِكَابُهَا بَعْدَ الشَّرْطِ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ، وَلَكِنْ يُؤْخَذْنَ بِهَا إجْبَارًا وَيُؤَدَّبُونَ عَلَيْهَا زَجْرًا، وَلَا يُؤَدَّبُونَ إنْ لَمْ يُشْتَرَطْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَيُثْبِتُ الْإِمَامُ مَا اسْتَقَرَّ مِنْ عَقْدِ الصُّلْحِ مَعَهُمْ فِي دَوَاوِينَ الْأَمْصَارِ لِيُؤْخَذُوا بِهِ إذَا تَرَكُوهُ؛ فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ صُلْحًا رُبَّمَا خَالَفَ مَا سِوَاهُ، وَلَا تَجِبُ الْجِزْيَةُ عَلَيْهِمْ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً بَعْدَ انْقِضَائِهَا بِشُهُورٍ هِلَالِيَّةٍ، وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فِيهَا أُخِذَ مِنْ تَرِكَتِهِ بِقَدْرِ مَا مَضَى مِنْهَا وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ كَانَ مَا لَزِمَ مِنْ جِزْيَتِهِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ يُؤْخَذُ بِهَا، وَأَسْقَطَهَا أَبُو حَنِيفَةَ بِإِسْلَامِهِ وَمَوْتِهِ وَمَنْ بَلَغَ مِنْ صِغَارِهِمْ أَوْ أَفَاقَ مِنْ مَجَانِينِهِمْ اُسْتُقْبِلَ بِهِ حَوْلٌ ثُمَّ أُخِذَ بِالْجِزْيَةِ، وَيُؤْخَذُ الْفَقِيرُ بِهَا إذَا أَيْسَرَ وَيُنْظَرُ بِهَا إذَا أَعْسَرَ، وَلَا تَسْقُطُ عَنْ شَيْخٍ وَلَا زَمِنٍ، وَقِيلَ تَسْقُطُ عَنْهُمَا وَعَنْ الْفَقِيرِ وَإِذَا تَشَاجَرُوا فِي دِينِهِمْ وَاخْتَلَفُوا فِي مُعْتَقَدِهِمْ لَمْ يُعَارَضُوا فِيهِ وَلَمْ يَكْشِفُوا عَنْهُ، وَإِذَا تَنَازَعُوا فِي حَقٍّ وَتَرَافَعُوا فِيهِ إلَى حَاكِمِهِمْ لَمْ يُمْنَعُوا مِنْهُ، فَإِنْ تَرَافَعُوا فِيهِ إلَى حَاكِمِنَا حَكَمَ بَيْنَهُمْ بِمَا يُوجِبُهُ دِينُ الْإِسْلَامِ وَتُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحُدُودُ إذَا أَتَوْهَا.
وَمَنْ نَقَضَ مِنْهُمْ عَهْدَهُ بُلِّغَ مَأْمَنَهُ ثُمَّ كَانَ حَرْبِيًّا، وَلِأَهْلِ الْعَهْدِ إذَا دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ الْأَمَانُ عَلَى نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَلَهُمْ أَنْ يُقِيمُوا فِيهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ، وَلَا يُقِيمُونَ سَنَةً إلَّا بِجِزْيَةٍ، وَفِيمَا بَيْنَ الزَّمَنَيْنِ خِلَافٌ، وَيَلْزَمُ الْكَفُّ عَنْهُمْ كَأَهْلِ الذِّمَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ الدَّفْعُ عَنْهُمْ بِخِلَافِ أَهْلِ الذِّمَّةِ.
وَإِذَا أَمَّنَ بَالِغٌ عَاقِلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَرْبِيًّا لَزِمَ أَمَانُهُ كَافَّةَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَذْلِ الْأَمَانِ كَالرَّجُلِ وَالْعَبْدُ فِيهِ كَالْحُرِّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَلَا يَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ، وَلَا يَصِحُّ أَمَانُ الصَّبِيِّ وَلَا الْمَجْنُونِ، وَمَنْ أَمَّنَاهُ فَهُوَ حَرْبٌ إلَّا إنْ جَهِلَ حُكْمَ أَمَانِهِمْ فَيُبَلَّغُ مَأْمَنَهُ وَيَكُونُ حَرْبِيًّا وَإِذَا تَظَاهَرَ أَهْلُ الْعَهْدِ وَالذِّمَّةِ بِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا حَرْبًا لِوَقْتِهِمْ فَيُقْتَلُ مُقَاتِلُهُمْ وَيُعْتَبَرُ حَالُ مَا عَدَا الْمُقَاتِلَةَ بِالرِّضَى وَالْإِنْكَارِ وَإِذَا امْتَنَعَ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ كَانَ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَيَنْقُضُ بِهِ عَهْدَهُمْ إلَّا أَنْ يَلْحَقُوا بِدَارِ الْحَرْبِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ جَبْرًا كَالدُّيُونِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْدِثُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بَيْعَةً وَلَا كَنِيسَةً، فَإِنْ أَحْدَثُوهَا هُدِمَتْ عَلَيْهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَبْنُوا مَا اسْتُهْدِمَ مِنْ بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ الْعَتِيقَةِ وَإِذَا نَقَضَ أَهْلُ الذِّمَّةِ عَهْدَهُمْ لَمْ يُسْتَبَحْ بِذَلِكَ قَتْلُهُمْ وَلَا غُنْمُ أَمْوَالِهِمْ وَلَا سَبْيُ ذَرَارِيِّهِمْ مَا لَمْ يُقَاتِلُوا وَوَجَبَ إخْرَاجُهُمْ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ آمِنِينَ حَتَّى يَلْحَقُوا مَأْمَنَهُمْ مِنْ أَدْنَى بِلَادِ الشِّرْكِ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجُوا طَوْعًا أُخْرِجُوا كَرْهًا.